قضية جيزيل بيليكو وتورّط صناعة البورنوغرافيا الذي نرفض أن نراه

قضية جيزيل بيليكو وتورّط صناعة البورنوغرافيا الذي نرفض أن نراه

حكمت المحكمة بتاريخ 19-12-2024 على دومينيك بيليكو، طليق جيزيل بيليكو، بالعقوبة القصوى لمدة عشرين عاماً في التهم الموجهة إليه بتخديرها واستقطاب رجال عبر الإنترنت لاغتصابها. كذلك أدانت المحكمة خمسين رجلاً من الذين شاركوا باغتصابها بتهم .الاغتصاب والاعتداء الجنسي[1].

بالرغم من التغطية الواسعة لهذه الجريمة، غاب الربط الواضح بينها وبين صناعة الدعارة والبورنوغرافيا

أفضت قضية جيزيل بيليكو، وشجاعتها بإشهار هويتها وفتح محاكمتها أمام العلن، إلى عودة النقاش حول قضايا العنف الجنسي والاغتصاب. لتُطرح في هذا السياق تساؤلات أعمق بشأن ضلوع المجتمعات الأبوية بارتكاب العنف الجنسي ضد النساء وشيوع ثقافة تشجع وتبرر الاغتصاب. إلا أن قلة قليلة جداً من الناشطات والنسويات ووسائل الإعلام تطرقت إلى الصلة الواضحة والمتعددة المستويات بين هذه القضية والصناعة التي تتغذى من العنف والاستغلال الجنسي للنساء، أي صناعة الدعارة والبورنوغرافيا.

اكتشفت جزيل بيليكو أن العوارض الصحية التي لم يحدد الأطباء سببها كفقدانها الذاكرة وشعورها بالتعب وآلام الحوض تعود لتخدير زوجها لها واستقطاب رجال لاغتصابها على مدى عقد كامل. هذا الاكتشاف جاء بعد أن تم إلقاء القبض على زوجها دومينيك بيليكو في أيلول 2020 عندما قُدمت شكوى بحقه لتصويره المتبضعات في متجر من تحت تنانيرهن (Up-skirting). خلال التحقيقات استحوذت الشرطة الفرنسية على هاتفه وأجهزته الإلكترونية لتتبين أعماله الإجرامية ضد زوجته حيث خدّرها واستقطب رجال لاغتصابها وهي فاقدة للوعي عبر موقع coco.fr وخطط ونسّق للاغتصابات المتتالية مع المعتدين على منصات التواصل الاجتماعي مثل Snapchat و Skype[2]، ثم قام بتصوير كل هذه الاغتصابات.

هناك سؤال ملّح في هذه القضية لا بد من معالجته؛ ما الدافع خلف جرائم دومينيك الجنسية بحق زوجته السابقة؟ الجواب البديهي هو أنه يستطيع ذلك. تعيش النساء في ظل المنظومة الأبوية بحالة دونية دائمة تجعل منهن ممتلكات للرجال، وهذه الحالة من نزع الإنسانية عن النساء ومنح السلطة المطلقة للرجال على أجسادهن تطلق العنان لعنف الرجال ضدهن. قضية جيزيل تؤكد بدون أدنى شك بأنه ما من امرأة آمنة من عنف الرجال الجنسي. وأنه بظل النظام البطريركي القائم ما من رادع أمام هذا العنف كونه بنظر المعنّف، جرائمه مشروعة لأن ضحيته لا تساويه بالإنسانية.  في هذا السياق، تصبح رغبات دومينيك بيليكو ”محوَر الكون“، ولأجل تلبيَتها يَنسُج مخططاً كاملاً كان ليدوم أكثر من عقدٍ من الزمن لو لم يتمّ فضحُه بالصدفة.

العنف الجنسي ضد النساء هو السلعة التي يستهلكها ملايين الرجال عبر المواقع الإلكترونية

لكن هذا ليس هو الجواب الوحيد. فبالرغم من التغطية الواسعة والمعمّقة لهذه الجريمة، غاب الربط الواضح بينها وبين ضلوع صناعة الدعارة والبورنوغرافيا في ارتكاب العنف والاستغلال الجنسي بحق النساء. هذه الصناعة دؤوبة على تجريد النساء من انسانياتهن وتحوليهن لمجرد أدوات جنسية وجودها وغرضها النهائي هو اخضاع النساء وإرضاء رغبات الرجال. فقد نشأت خصوصاً عبر الأدوات الرقمية، بيئة مُطبِّعة وحاضنة للاعتداءات الجنسية على النساء. وما يحصل في الدعارة وما يتم عرضه في البورنوغرافيا لا يلبث أن يصبح مقبولاً في عقول مشاهديه لينتقل فيما بعد ليصبح ممارسات حقيقية ضد نساء حقيقيات.

هنا تتضح الصلة الأولى بين هذه القضية وما يشاهده الرجال على المواقع البورنوغرافيّة. حيث تُنشر على هذه المواقع العديد من المقاطع تحت خانات مثل ”فتاة نائمة وفاقدة للوعي“ أو ”مضاجعة فتاة ثملة تماماً وفاقدة للوعي“. دومينيك بيليكو قد يكون أيضاً استوحى جرائمه ضد ضحاياه الأخريات مما يشاهده في البورنوغرافيا، فبالإضافة إلى تصوير اغتصاب زوجته وهي فاقدة للوعي، قام بالتقاط صور لابنته وزوجات ابنيه ونشر هذه الصور ضمن محادثات[3]. هذا أيضاً يشير وبوضوح إلى العلاقة مع المقاطع المنشورة تحت خانة ”سفاح القربى“ التي يشاهدها كثير من الرجال.

وهنا بيت القصيد، إذ أن صناعة البورنوغرافيا هي الوسيط الذي يتم عبره تطبيع العنف الجنسي ضد النساء ليصبح هو السلعة التي يستهلكها ملايين الرجال عبر المواقع الإلكترونية. بهذا تتحول كل النساء إلى هدف مشروع بنظر الرجال لتنفيذ اعتداءات كالتي شاهدوها. وهذا ما تؤكد عليه الوقائع في هذه الجريمة المدبرة والمعقدة حيث التقى دومينيك بعدد من الرجال الذين استقطبهم لاغتصاب طليقته، على غرفة دردشة تنشر مواد بورنوغرافية عنوانها ”من غير معرفتها“[4].

بالعودة إلى مسألة الـUp-skirting التي أُوقف بسببها دومينيك، تتضح صلة أخرى بين هذه الصناعة وإقدام رجال يشاهدون البورنوغرفيا على انتاج مواد بورنوغرافية بنفسهم، مثل الـUp-skirting وتصوير مقاطع جنسية ونشرها وتوزيعها. هذه الانتهاكات والاعتداءات الجنسية يصوّرها ويحمّلها آلاف الرجال على المواقع البورنوغرافية ويبحث عنها ويشاهدها آلاف آخرون عن معرفة تامة بأنه اعتداء على امرأة. فدومينيك ليس الوحيد الذي قام بتصوير مواد بورنوغرافية حيث وجدت الشرطة في حاسوبه أكثر من 20,000 صورة وفيديو. فالصحافي ذو ال43 عاماً نيكولا ف. الذي تمت محاكمته في هذه القضية، وُجد على حاسوبه وأجهزته 4,284 صورة و 262 فيديو لمواد بورنوغرافية متعلقة بالأطفال[5]، والمحكمة قد أدانت خمسة من المتهمين بحيازة العديد من المواد البورنوغرافيّة المتعلقة بالأطفال.

المجرم دومينيك هو في الحقيقة يرتقي ليكون قواد

يمكن في الحقيقة الاستخلاص بأن جريمة دومينيك ضد جيزيل بيليكو هي في صميمها بورنوغرافيّة. فلقد أقر دومينيك بيليكو أنه قام بتصوير عملية الاغتصاب للمتعة[6]. ومن غير المستبعد أن يكون قد استكمل مساره الإجرامي ونشر هذه الفيديوهات على مواقع البورنوغرافيا، نظراً لأنه قد قام بالفعل بنشر صور لزوجته السابقة على غرف الدردشة التي استقطب عبرها المغتصبون وفي محادثات معهم.

كما أنّ المجرم دومينيك ليس مغتصباً ومنتجاً لمواد اباحية فحسب هو في الحقيقة يرتقي ليكون قواد، وإن لم تظهر في المحاكمات أدلة على حصوله على مكاسب مادية من اغتصاب رجال آخرين لزوجته، إلا أن المنفعة الخاصة واضحة تماماً. لقد قام بتخدير زوجته وأفقدها الوعي وأتى برجال يغتصبونها خدمةً لمصلحته ورغباته وإمعاناً في سيطرته عليها وتملّكه لها.

يتم الحديث عن المعتدين على بيليكو بوصف أحدهم صحافي وآخر رجل إطفاء للقول بأنهم رجال عاديون. وهذا صحيح، الاعتداءات الجنسية يرتكبها بالغالب رجال عاديون ومن كل الفئات، كذلك هم من يشاهدون البورنوغرافيا ويشترون الأفعال الجنسية. يمكن لأي رجل إذا برر لنفسه ووجد في محيطه تطبيعاً مع انتهاك أجساد النساء أن يقدم على ذلك. وقد حاول المغتصبون ومحامو الدفاع التنصل من هذه الجرائم عبر الترويج بوقاحة بأن جيزيل الفاقدة للوعي كانت موافقة على هذا الاغتصاب. البعض اعتبر أن بحصوله على موافقة زوجها أصبح جائزاً اغتصابها. وهذا التبرير الوقح هو النقطة الجامعة في كل جرائم العنف والاستغلال الجنسي من اغتصاب ودعارة وبورنوغرافيا. فعوضاً عن أن يتم توجيه السؤال إلى نية ودراية المعتدي بارتكابه جريمته، يُصّب اللوم على الضحية وكأن الموافقة -رغم غيابها الواضح- هي السحر الذي به تنتفي الصفة الجرمية عن فعل الجاني.

من بعد جيزيل سيكون شجاعاً؟

شجاعة جيزيل لا يجب أن تذهب سدىً، لا بد لهذه القضية أن تهدم كل هذه الثقافة المشجعة على الاعتداء والاستغلال الجنسي. وسائل الإعلام التي هبت إلى تبني قضية جيزيل بيليكو لا يمكن أن تعفى من مسؤوليتها في التطبيع مع تسليع النساء واستغلالهن. فهذه الوسائل التي غسلت جرائم المنصات البورنوغرافيّة وأعدت تقارير عن نساء ”اخترن“ الظهور على هذه المنصات هي شريكة في تطبيع ثقافة التسليع. من يدري كم من هؤلاء النساء اللواتي ظهرن في هذه التقارير لم يكن ضحايا استغلال لأزواجهن أو قوادين من نوع آخر؟ تقع المسؤولية أيضاً على الحركة النسوية لمواجهة صناعة البورنورغرفيا الواضح ضلوعها في هذه الجرائم الجنسية، ونبذ كل خطاب يغسل جرائم هذه الصناعة. والمسؤولية الأكبر هي على عاتق الدول، إذ لا يكفي إقفال موقع بورنوغرافي واحد في حين يُستبدل بآلاف المواقع. حان الوقت لإنهاء هذه الصناعة برمتها ووضع حد لكل الجرائم التي ترتكبها بحق النساء.


[1]https://www.reuters.com/world/europe/verdict-due-gisele-pelicot-rape-case-that-horrified-world-2024-12-19/

[2]https://edition.cnn.com/interactive/2024/12/europe/gisele-pelicot-france-case-messages/

[3]https://www.abc.net.au/news/2024-11-19/gisele-pelicot-children-speak-of-horror-trial/104617686

[4]https://www.bbc.com/news/articles/cx2kdd3n7yqo

[5]https://newlinesmag.com/spotlight/gisele-pelicot-finding-sisterhood-at-frances-mass-rape-trial/

[6]https://www.bbc.com/news/articles/cx2kdd3n7yqo